تتزاحم المقاتلات الإسرائيلية في سماء بيروت، تلقي القنابل والصواريخ مُخلِّفة دماراً شاسعاً. بمرور الوقت يطول الدمار إلى كل مكان، وينزح سكان لبنان إلى وجهةٍ لا يعرفونها. يفرون من منطقة الحرب إلى أخرى يقول الاحتلال الإسرائيلي إنها آمنة، ثم يقرر أن المنطقة الآمنة لم تعد كذلك، فيطالبهم بالنزوح إلى أخرى. وهكذا في دائرة لا تنتهي، لكن المكان الذي ينال حظاً أكبر من التدمير كلما هاجم جيش الاحتلال، لبنان، هو الضاحية الجنوبية في بيروت.
الضاحية التي نعرفها اليوم باسم الجنوبية، سماها الزعيم الشيعي اللبناني، موسى الصدر، «ضاحية المحرومين». وأطلق عليها حزب الله «ضاحية المستضعفين». أما اليسار اللبناني فيتداولها باسم «ضاحية البؤس». وعُرفت سابقاً باسم «ساحل المتن الجنوبي»، حدودها من الشمال والغرب بلدة الغبيري، ومن الجنوب برج البراجنة، والحدث والشياح حدودها من الشرق. تبعد عن مركز العاصمة، بيروت، قرابة 5 كيلومترات. وفي عام 2006 تضررت بضربات إسرائيلية؛ حيث دُمِّر حوالي 256 مبنى سكنياً ضمت أكثر من 3 آلاف وحدة.
يتبع الضاحية عدة أحياء، هي: حارة حريك، والليلكي، والشياح، والغبيري، وبرج البراجنة، وبئر العبد، وحي السلم، والأوزاعي، والمرجية، وتحويطة الغدير. وصُمِّمت منطقة الضاحية الجنوبية وفقاً لرؤية مخطط المدن الفرنسي، ميشيل إيكوشار، الذي أراد تقليص كثافة العاصمة اللبنانية وتحويل ضواحيها إلى مناطق مجهزة بالخدمات والبنية التحتية، لاجتذاب الطبقة المتوسطة المتعلمة.
من أحياء الضاحية، تختص حارة حريك بالحصة الكبرى من أطنان قذائف الجيش الإسرائيلي؛ فحارة حريك هي قلب الضاحية الجنوبية، ورغم العدد الكبير من الهجمات الإسرائيلية التي شهدتها تلك الحارة على مدى تاريخ الصراع اللبناني-الإسرائيلي، فإن المفاجأة أن مساحتها لا تتجاوز أكثر من 1.8 كيلومتر مربع.
لكن يبدو أن للحارة رغم صغر مساحتها من اسمها نصيب؛ حيث تنقل بعض الروايات أن اسمها نسبة للرجل الأول الذي أسسها، وكانت شهرته حريك، أي كثير الحركة. وتُعتبر الحارة نشطة الحركة دائماً، ويتركز فيها معظم قوة حزب الله. وهناك رواية أخرى لتفسير اسمها، وهي أنه مشتق من اللغة السريانية، فحريك تعني الاحتراق. ويبدو أن لها أيضاً من هذا التفسير نصيباً.
يروي محمد كزما في كتابه الضاحية الجنوبية أيام زمان، أن حارة حريك كانت في أصلها قرية زراعية، لكن حين أُقيم مخيم برج البراجنة على أطرافها، واستقر فيها عدد كبير من اللاجئين، فقدت الحارة طابعها الريفي، وأصبحت تعتمد على البيع والشراء كالأحياء الحضرية. واليوم، يبلغ عدد سكان مخيم البراجنة قرابة 25 ألف نسمة، يعيشون على مساحة 750 متراً مربعاً.
لبرج البراجنة أيضاً قصص في التمرد على التظلم؛ فقد ورد أقدم ذكر تاريخي لمنطقة الضاحية الجنوبية في مخطوطة نادرة للمؤرخ، صالح بن يحيى التنوخي (المتوفى عام 1453م). يروي التنوخي قصة امتناع سكان قرية البرج، التي نعرفها اليوم ببرج البراجنة، عن دفع إقطاع الأرض لأحد الأمراء الدروز، وقتلهم العبد الذي بعثه لهذا الغرض، ورميهم إياه في بئر يُعرف مكانها اليوم بـ «بئر العبد».
وهم في ذلك لا يختلفون عن البيئة العامة التي يعيش فيها أبناء الضاحية. فمع توافد الفدائيين الفلسطينيين إلى لبنان انخرط عدد من أبناء الضاحية في صفوف المقاومة الفلسطينية، معلنين تأييدهم للعمل الفدائي ضد المحتل الإسرائيلي. وحين وُلد مشروع الحركة الإسلامية الشيعية في لبنان على يد موسى الصدر، الذي اتخذ من بلدة الشياح مقراً له، وتزامن ذلك مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، بدأ الفكر العسكري والمقاوم ينتشر في كل أرجاء الضاحية، وبين أبناء حارة حريك خصوصاً.
تحول حارة حريك من الزراعة إلى التجارة لم يكن التغيير الوحيد الذي نال الحارة أو الضاحية الجنوبية؛ فالتغيير الأهم هو أن أغلبية سكان المنطقة كانوا من المسيحيين. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بدأ آلاف المسيحيين في بيع بيوتهم والرحيل، سواء من الحارة أو من لبنان كله، وذلك كما يروي لنا سمير قصير في كتابه تاريخ بيروت.
تلاقى هذا البيع مع رغبة العديد من العائلات الشيعية في الفرار من أحياء بيروت التي كانوا مهددين فيها، فاشتروا المنازل واستقروا فيها. وصل في تلك الفترة القليلة قرابة 150 ألفاً من سكان الأحياء الشرقية للعاصمة بيروت فراراً من مضايقات الميليشيا المسيحية.
مع تتابع الأيام صارت الحارة خاصةً، والضاحية الجنوبية كلها، معقلاً للشيعة في لبنان، ومن ثَمَّ موطناً رئيسياً لحزب الله اللبناني؛ فقد بدأ حزب الله في التكون وسط الحرب الأهلية اللبنانية. وأقام مقره الرئيسي في حارة حريك، فباتت هي المعقل السياسي للحزب. ويقطنها حالياً قرابة مليون شخص، كانوا قبل 10 سنوات لا يزيدون على 600 ألف، لكن الرقم قفز بشكل كبير بعد اندلاع الثورة السورية والحرب التي تلتها، فلجأ السوريون إلى الضاحية.
تضم حارة حريك العديد من مراكز حزب الله المعروفة، مثل: مبنى كتلة الوفاء للمقاومة، ومجلس شورى الحزب، ومكاتب المساعدات الاجتماعية التي تشهد كثافة في المترددين عليها، إضافة إلى مسجد ومكتبة الحسنين، وسواها من المؤسسات الاجتماعية والصحية. وكانت الحارة شاهدة على لحظة الميلاد الأولى لهذا التواجد؛ ففي عام 1976، أسس المرجع الديني الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله أول حوزة دينية سياسية في المنطقة.
ويبدو أنه يجب على الحارة أن تشهد فصلاً جديداً، عنوانه الاغتيالات المدوية لقيادات حزب الله في الأيام الأخيرة. منها اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام للحزب. ومن قبله إبراهيم عقيل، الذي شغل منصب قائد المجلس العسكري. ومن قبلهما اغتالت إسرائيل في حارة حريك فؤاد شكر، الذي يُعتبر من مؤسسي حزب الله، وكبير المستشارين العسكريين للأمين العام للحزب حسن نصر الله.
رغم هذا التواجد الكثيف لحزب الله إلا أنه من الخطأ القول بأن الضاحية الجنوبية منطقة حكر على حزب الله أو الشيعة فحسب، بل يتواجد فيها أعداد أخرى من أطياف لبنان؛ فوفق مسح أجرته إدارة الإحصاء المركزي اللبنانية في العام 2007، بيَّن أن 50% من سكان الضاحية الجنوبية لبيروت ينحدرون من مناطق الجنوب، و24% من البقاع، و9.7% من بيروت، و15% من جبل لبنان، و0.7% من الشمال.
لكن ما يمكن قوله أن قوانين حزب الله هى التي تسري في تلك المنطقة، مثل حظر المشروبات الكحولية، ووجود جهاز أمن حزب الله الخاص، ومنع الزوار من استخدام الكاميرات من دون إذن. لكن في نفس الوقت لا تزال كنيسة حارة حريك مفتوحة إلى اليوم، وتُقام فيها الصلوات أيام الأحد.
ورغم اختلاف القيود بين الضاحية الجنوبية ومناطق أخرى في لبنان، فإنها لا تختلف من حيث المبدأ عن العديد من مناطق لبنان باعتبارها حياً من أحياء بيروت يديره طرف سياسي قائم على أساسي طائفي، ويفرض قواعده الخاصة بعيداً عن قواعد الدولة كلها، لأن الدولة بالأساس غير موجودة في لبنان بشكلها المعروف، وغير قادرة على بسط هيمنتها، أو إخضاع أي طرف لقواعدها.
فمثلاً بعد أن دمر العدوان الإسرائيلي الضاحية الجنوبية عام 2006، فإن الدولة اللبنانية لم تتدخل لإعادة إعمارها مرة أخرى، بل قام حزب الله بتلك المهمة عبر مشروع «وعد» التابع لمؤسسة «جهاد البناء» المنضوية تحت لواء حزب الله، وهي ضمن مؤسسات عديدة تابعة لحزب الله في الضاحية؛ فعدد المؤسسات التجارية والاقتصادية في الضاحية الجنوبية يتجاوز 37 ألف مؤسسة، ويصل عدد مستشفياتها إلى ثمانية، ويزيد عدد الفروع المصرفية فيها على المائة. كما يوجد مطار رفيق الحريري الدولي ضمن نطاق الضاحية، ما منحها أهمية استراتيجية كبيرة.
رغم الانطباع الذي يعطيه مسمى «الضاحية - Suburb»، وهي المنطقة الموجودة على أطراف المدن، فإن الضاحية الجنوبية ليست منطقة عشوائية أو بعيدة عن التطوير والحضارة، بل تعتبر منطقة حيوية. لهذا طوَّرت إسرائيل في حروبها مبدأً عُرف بمبدأ الضاحية. يقوم هذا المبدأ على التدمير الواسع لمباني الضاحية، وبنيتها التحتية تبعاً لسياسة الأرض المحروقة، وذلك تحقيقاً لاستراتيجية الردع، كما يتصورها الإسرائيلي.
لكن مع ازدياد حدة الصراع يتضح أن الضاحية الجنوبية ليست هي وحدها المستهدفة بالتوحش الإسرائيلي، بل لبنان كله. فدائرة الاستهداف الإسرائيلي تتسع مع مرور الأيام من الضاحية الجنوبية إلى بيروت العاصمة كلها، وربما تصل في لحظة إلى أي نقطة في لبنان. وقد بات من الصعب التنبؤ بالسلوك الإسرائيلي، لتجاوزه جميع قواعد الاشتباك التقليدية، وقفزه على كل الخطوط التي كانت تُوصف سابقا بأنها حمراء لا يمكن تجاوزها.